ربما تكونون قد لاحظتم أن إدارة بوش لم تعد تتحدث عن "عملية السلام" مطلقا، وذلك يصدق عليّ أنا أيضا. فعلى الرغم من أنني ألفت كتابا حول هذا الموضوع، إلا أنني أعترف بأن المفهوم يبدو مضللا إلى حد كبير، فالذي يجري الآن هو أنه ما من سلام بين الطرفين المتنازعين، إسرائيل وفلسطين، ولا توجد ثمة عملية تهدف إلى تحقيق هذا الهدف، لكن في الماضي القريب، كان هناك العديد من المبادرات الجادة في هذا الطريق، المبذولة من قبل المسؤولين في كلا الطرفين.كما بذلت إدارة الرئيس بيل كلينتون جهودا مقدرة، وخصصت وقتا لا يستهان به، في السعي إلى إبرام اتفاقات سلام بين إسرائيل وفلسطين وسوريا. صحيح أن تلك الجهود قد باءت بالفشل، غير أنه لا يزال جديرا بالاهتمام، أن نرى على ضوء المعلومات المتوفرة لنا اليوم، كم كانت تلك الجهود قد اقتربت من الوصول إلى هدفها وقتئذ.
فالكتب الصادرة حديثا، تقدم معلومات مفيدة جدا عن هذا الأمر، ومن بين هذه الكتب، كتاب بيل كلينتون الذي يحمل عنوان " حياتي" وهو عبارة عن سيرة ذاتية لمؤلفه، وفيه نجد ما يفيد في إطلاعنا على دوره في مفاوضات السلام، التي كانت قد جرت إبان توليه للرئاسة. كما أن هناك كتابا آخر على درجة أكبر من الأهمية، يتوقع صدوره قريبا، وهو من تأليف دنيس روس، المبعوث الأميركي لإدارة كلينتون لمنطقة الشرق الأوسط. ويحمل الكتاب عنوان " السلام المفقود: خفايا الصراع من أجل سلام الشرق الأوسط". كما يضم أكثر من 800 صفحة، وهو مترع بالتفاصيل والمعلومات.
صحيح أن الكثيرين من العرب، لن ينظروا إلى روس باعتباره مصدرا موثوقا به للمعلومات، طالما أن الشائع عنه على نطاق واسع، هو انحيازه إلى الجانب الإسرائيلي.وأنا شخصيا، أجد خلافا كبيرا معه، في الكثير مما توصل إليه من استنتاجات في كتابه هذا. ومما أختلف معه فيه.. نقده الحاد لياسر عرفات، وتحميله القدر الأكبر من وزر ومسؤولية فشل مفاوضات كامب ديفيد وما بعدها. إن ذلك لا يقلل من غنى الكتاب بالمعلومات القيمة والمثيرة، ولا يقلل من إمكان المرء تعلم الكثير من الدروس والعبر منه. وهذا ما سوف أحاول القيام به، سواء فيما يتصل بمسار السلام الإسرائيلي- الفلسطيني، أم بمسار السلام الإسرائيلي- السوري.
ولنتناول أولا السلام الإسرائيلي- السوري. فمنذ عام 1992، يوم أن كان اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل، وحتى ساعة وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد في العاشر من يونيو عام 2000، كانت هناك جهود كثيرة ومتصلة، بغية التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي- سوري. وكان الرئيس الأسد، قد أصر مرة، على أن تجري مفاوضات حول هذا الأمر،على النطاق العربي ككل، لكن وبحلول عام 1993، كان واضحا أن منظمة التحرير الفلسطينية، تمضي قدما في عقد صفقتها السرية مع الطرف الإسرائيلي، عبر مفاوضات أوسلو. ومن لحظتها لم يشعر الأسد، بأنه مقيد بأي شكل من أشكال التضامن العربي. وكان ذلك يعني استعداده لإبرام صفقة سلام تخص بلاده، لكن بقيت مشكلة الشروط التي ستبرم عليها صفقة السلام، وكيف يتم الربط بين تلك الصفقة والمسار اللبناني.
أما من جانبه، فقد كان اسحق رابين أكثر حماسا واستعدادا، للتعامل مع الأسد وليس ياسر عرفات.ورأى رابين المزايا الاستراتيجية التي يعنيها وضع حد لنزاعاته على الجبهة الشمالية من بلاده. وفي أغسطس من عام 1993، أبلغت إسرائيل واشنطن عن استعدادها للانسحاب من هضبة الجولان، فيما لو لبى الطرف السوري المطالب الإسرائيلية الخاصة بالأمن والمياه. والمعلوم أن إخطار سوريا، قد قصد منه أن يأتي عبر الوساطة الأميركية. وفي أثناء الأخذ والرد حول هذا العرض، تساءل الأسد عما إذا كانت لإسرائيل أي مطامع أو مزاعم على الأراضي السورية؟ فجاءه الرد بالنفي من جانب واشنطن،لكن وعلى الرغم من هذه المفاتحات، فقد فضل رابين المضي في الطريق ذاته مع الفلسطينيين أولا. ولا يعني ذلك، أن المفاوضات مع الطرف السوري قد وصلت إلى نهايتها. وفي يناير من عام 1994، كان الرئيس بيل كلينتون قد عقد لقاءه الأول- من بين لقاءات ثلاثة- مع الرئيس السوري حافظ الأسد، في جنيف. وفي ذلك اللقاء، تلقى كلينتون من الأسد وعدا بموافقة سوريا على أن تكون لها علاقات طبيعية سلمية مع إسرائيل، في إطار اتفاقية شاملة تبرم بين الطرفين. وفي السياق ذاته، حصل كلينتون على وعد آخر من الأسد، يتعلق بانسحاب القوات السورية من لبنان، فيما لو تم التوصل إلى اتفاق سلام شامل في المنطقة ككل.
وبعد تلكؤ استمر بضعة أشهر، عاد الأميركيون مجددا إلى التفاوض الإسرائيلي- السوري. وكان الموضوع الرئيسي لتلك المفاوضات، هو تحديد المساحة التي ستتراجع فيها إسرائيل عن الأراضي السورية المحتلة. وتساءل الأسد عما إذا كان المقصود بتلك الحدود، حدود 4 يونيو 1967، أم الحدود القديمة الدولية التي تم ترسيمها بين البلدين(يومها فلسطين) في عام 1923؟ بالنسبة للأسد، الحدود الوحيدة المقبولة، كانت حدود 4 يونيو.وفي الرابع من يونيو 1994، تمكن الأميركيون من الحصول على وعد من رابين